جلس أمامى هادئاً … كان زوجاً مثالياً فى كل شئ .. كذلك كان يشغل وظيفة مرموقة، ويتقاضى مرتباً ممتازاً .. ولكنه فى الوقت نفسه، كان يعانى الكثير فى زواجه، فهو يعانى من ” السكتة العاطفية ” لسنوات وسنوات .. ورغم كل ما كان يفعله كزوج، إلا انه لم يفلح فى التمتع بزواج هادئ، وبمنزل مستقر .. فقد دبت الخلافات، وأستمرت حتى عاش بعيداً عن زوجته، وانفصلا عاطفياً، رغم أنهما يعيشان فى منزل واحد !!
وبعد حديث طويل، مملوء بالشجن والألم، شكى فيه من سنوات المشاعر الضائعة، سألته سؤالاً عادة ما نطرحه فى جلسات المشورة .. ماهو أكثر شئ يسعد زوجتك؟
فهل تتصور الأجابة؟!
لقد حدق فى طويلاً، ثم أجابنى مندهشاً ” تخيل … أول مرة أفكر فيها فى هذا السؤال ” !!.. بعد 17 سنة زواج، أجابنى هذا الزوج المثالى فى كل شئ ” لاأعرف احتياجات زوجتى الحقيقية” وأنى أرى كثير من الزوجات والأزواج ينتهجون هذا النهج ..
يبذل الكثيرون أوقاتاً كثيرة ونقوداً أكثر والعناية بالأثاث، وشراء الثياب وإعداد الطعام .. ولكن .. قلما مايفكر أحدنا كيف أزين نفسى لشريك حياتى؟ كيف أقدم له مايحتاجه بحق، ليشبعه ويملأ مخازن مشاعره فرحا وسعادة ..
ولا تكون لكم حاجة إلى أحد (1تى 4 : 12)
ماذا تفعل لو شعرت بجوع شديد يؤرق معدتك ويقض مضجعك ويسرق الراحة من جسدك؟! ألا تسرع بالبحث عن طعام سائغ تسد به رمقك وتهدئ به غائلة جوعك؟ … فماذا لو لم تجد طعام؟ دعنى أخبرك .. سوف تركض يميناً ويساراً باحثاً عن أى طعام .. لن تبحث حينئذ عن النوعية ولا الكمية .. بل ستبحث عن أى شئ، بلا تمييز .. فعند الاحتياج يتقبل الإنسان أى شئ تحت ضغط الألم ووطأة الضيق وإلحاح النقص ..
وهذه القاعدة النفسية هامة للغاية ..
فالاحتياج النفسى أو حتى الجسدى لو لم يتم إشباعه بطريقة صحيحة، يظل يبحث عن مصدر آخر للإشباع حتى ولو كان بطرق غير مشروعة .. فقد يظل الإنسان صامداً فترة، وقد تصبر النفس، ولكن بعد فترة من الجوع، تنوء النفس وتنحنى تحت ضغط الحاجة .. ثم تتحرك هذه النفس الجائعة باحثة – لا شعورياً عن أى إشباع ولو بطريقة خاطئة .. وقد ينتهى كل هذا بتدمير النفس ..
أعطوهم انتم ليأكلوا (مت 14 : 16)
لقد راعى السيد المسيح الاحتياج الإنسانى تماماً، سواء أكان نفسياً أو جسدياً وليس مجرد الاحتياج الروحى.
ففى معجزة إشباع الجموع، شعر السيد المسيح بالاحتياج الجسدى للشعب الـذى ظـل إلى المساء معه يسمعه ويتبعه فقال لتلاميذه ” لا حاجة بهم أن يمضوا أعطوهم أنتم ليأكلوا ” .. ثم اطمأن بنفسه بعد المعجزة أن كل واحد تناول طعاماً فقد أعطى التلاميذ بنفسه، ثم قام التلاميذ بعد ذلك بتوزيع نصيب كـل واحـد حتى ” أكل الجميع وشبعوا ” (مت 14 : 14 – 21).
وعندما جاء للسيد المسيح الذين يطلبون الدرهمين فى الضرائب، احترم القانون، دعى بطرس أن يسدد الضريبة عنهما .. فأرسله ليصطاد سمكة، وعند فتحها وجد بها استاراً (4 دراهم) ليسدد بها الاحتياج المادى المُلّح (مت 17 : 24 – 27).
وعندما عبر المسيح بتلاميذه المنهكين، بعد ليلة الخميس الحافلة بالتعب والسهر، وجدهم نياماً (مت 26 : 40) .. فطلب الرب منهم أن يسهروا معه ساعة واحدة .. ولما عبر لهم ثانية وجد أعينهم ثقيلة ومازلوا نياماً (مت 26 : 43) .. وفى المرة الثالثة عندما عبر بهم أشفق عليهم، فقال لهم ” ناموا الآن واستريحوا ” (مت 26 : 45). منتهى الرقة، والشفقة، والإحساس باحتياج النفس الإنسانية المتعبة المحتاجة للراحة.
بالمثل، لما التقى المسيح بالأبرص، لم يقم بشفائه مباشرة، بل تحنن يسوع ولمسه (مر 1 : 41) .. لم يلمسه بعد الشفاء بل قبل الشفاء .. فأعلن له قبوله، وعدم رفضة .. لمسه ليعوضه عن السنين التى حرم فيها من لمسة الأب والأم والأولاد .. فقد اشبع الرب له احتياجاً نفسياً عميقاً !!
السيد المسيح يجهز طعام الغذاء
هل تعرف أروع أمثلة إشباع الاحتياجات؟
إنه يوم جلس السيد المسيح على بحر طبرية فى انتظار قدوم التلاميذ من رحلة الصيد بعد القيامة.. فناداهم بعتاب رقيق ” يا غلمان العل عندكم إداماً ” فاجاب التلاميذ “لا” .. كالعادة، رحلة الصيد كانت فاشلة تماماً مثل رحلة صيد بطرس فى بداية دعوته نفس النتائج بالضبط ” فى تلك اليلة لم يمسكوا شيئاً ” (لو5:5).
فهل تعلم ما حدث بعد ذلك؟ وجدوا السيد المسيح وقد أعد لهم طعام الغذاء ” جمراً موضوعاً وسمكاً موضوعاً عليه وخبزاً (يو21 : 9) .. لم لم ينتظر السيد المسيح التلاميذ المنهكين من عمل طوال الليل ليأخذ من السمك الذى أصطادوه، بل جلس يجهز لهم الطعام مسبقاً حتى إذا وصلوا إلى الشاطئ، أراحوا أجسادهم المنهكة وبطونهم الجائعة بلقيمات الحب والأهتمام..
أليس هذا هو الحب فى أسمى معانيه؟ .. إنه الحب الذى يسعى لإشباع احياج الآخرين قبل أن يطلبوا ودون أن يطلبوا.
أبحث عن احتياج .. واشبعه
القاعدة النفسية الهامة هنا، لم يختلف عليها اثنان من علماء الزواج عليك أن تبذل جهداً للبحث عن احتياج شريك حياتك، ثم ابذل جهداً مضاعفاً لإشباعه … (البحث، ثم الإشباع الحقيقى).
هناك كثير من الأزواج لا يبذلون الجهد المطلوب للبحث عن احتياج شريك حياته العميق..وهناك أزواج آخرين لايعرفون شيئاً عن احتياج شريك حياتهم، وكل ما يهمه أن يشبع هو احتياجه الشخصى، ولا يلتفت إلى احتياجات الآخر .. والعجيب انه يتصور أنه بهذا قد اقتنى السعادة، وامتلك الراحة والهناء !!
والنتيجة؟ استهلاك للآخر، وانتقاص من كرامته، وامتلاك وتسلط على كرامة الآخر وعلى حقه فى الفرح والبهجة !!
وقد يصدف أن يعطى الآخر لشريكه خنوعاً وذلاً ولكنه لن يستمر، وإن أعطى، سوف يتوقف حتماً، فالحياة لا تسير بالقهر والأنانية وعشق الذات!
هناك أزواج قاموا بإشباع الاحتياجات بطريقة خاطئة منقوصة، تزيد الجوعان جوعاً، والمحتاج احتياجاً .. وقد ضرب الرسول يعقوب مثلاً توضيحياً معبراً عن هذا ” إن كان أخ وأخت عريانين ومحتاجين للقوت اليومى، فقال لهما أحدهم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة ” (يع 2 : 15 ، 16).
مثال ذلك الزوج الذى يقدم لزوجته الهدايا والنقود عوضاً عن الحب والاحترام والتقدير .. أو الزوجة التى تبذل الجهد فى الطعام والعناية بالمنزل عوضاً عن تقديم الوقت القيم لزوجها، والاستماع الصادق، والتكريم اللائق، والاهتمام الفائق!!
ترى .. ماذا لو كنت جوعاناً فأعطيتك ملابساً فاخرة لتلبسها، أو كنت عطشاناً فقدمت لك كرسياً وثيراً لتجلس عليه، أو كنت مرهقاً وبحاجة للنوم، فأجبرتك على الخروج فى عزومة رائعة وسهرة ممتعة؟
هل هكذا تشعر بالشبع والرضى؟ إن أكثر الأزواج يمارسون هذه الصفقة الخاسرة …
وقد استنكر السيد المسيح هذا الأمر بشدة ” فمن منكم وهو أب يسأله ابنه خبزاً فيعطيه حجراً أو سمكة فيعطيه حية بدل السمكة، أو سأله بيضة فيعطيه عقرباً؟ ” (لو11 : 11 ، 12).
ألا تعلم أيها الزوج، أيتها الزوجة، أن أستبدال الاحتياج العميق بشئ آخر قد يكون أكثر إيذاء من العقارب؟! فإن الاستهانة بالاحتياج العميق، وعدم تقديره، وتقديم احتياج آخر مكانه – ولو كان هاماً – هو أكثر جرحاً للنفس من عدم تقديم هذا الاحتياج أصلاً.